ما السبب في أن المبادئ لا تجدي نفعا في مؤسساتنا!؟...

جمعة, 2017/06/30 - 1:55م

المبادئ -إصطلاحا- هي القوانين التي يجب أن تكون و القواعد التي يجب أن تسود... هي القواعد  التي ينبغي إتباعها لتثبت الروح و الحركة و النشاط في الحياة و تضبطها و تقيها من المزالق و المطبات ... إنها قوة الدفع  الضرورية  لمواصلة  رحلة الصعود و التمكين و الاستمرار بسلام و أمان... هل رأيتم مؤسسات تترنح  دون زمام  ... تنتقل من مطبة إلى أخرى و من أزمة الى أزمة  لا تسحب قدما من وحلها إلا لتجد أن القدم الأخرى قد غاصت بدون رجعة...؟... يحدث ذلك رغم حضور اللافتات و الشعارات و الخطب و الخطابات و الكتابات و البيانات عن المبادئ و القوانين و القواعد التي وضعت لتحفظ و تضمن سلامة "العير و المسير"!... فلماذا –إذن- لا تجدي المبادئ نفعا؟...

أجدني مضطرا-قبل مواصلة الحديث- إلى فتح القوس التالي :(المؤسسة التي نعني–حتى لا يذهب بنا أحدهم مذهبا يخصه- قد تكون دولة و قد تكون حزبا و قد تكون شركة أو منظمة مدنية... فكلها -لكي تستحق اسم مؤسسة- يجب ان تؤسس على مبادئ مرجعية حاكمة و منظمة).

يشير السيد كانفيلد في مقدمة كتابه الرائع "مبادئ النجاح" الى أن المبادئ  تجدي نفعا فقط عندما يلتزم بها و تنفذ... ثم يتساءل : هل يمكنك ان تستأجر شخصا آخر-مثلا- ليقوم برياضة تمرين الضغط من أجل صحتك أو لتناول دواء السكري أو الضغط المزمن بدلا عنك؟... ثم يقول: يمكن ان يعطيك أحدهم خريطة طريق جيدة  لكن سيتعين عليك أنت وليس على  احد آخر أن تلتزم بهذه الخريطة لتجد نفسك حيث تريد أن تكون... 

إذن لكي تجدي المبادئ نفعا لا يكفي أن نتعلمها و نرددها على طريقة الببغاء ثم نعلقها بالخط العريض تمائم و لوحات على جدران و أبواب مكاتبنا و في ساحاتنا و شوارعنا بل علينا أن نقوم بتطبيقها لتزهر و تثمر و لنقطف الثمرة في نهاية المطاف... هذا هو كلما في الأمر... و هو السر و السبب وراء كونها لا تجدي نفعا هنا بينما تجدي نفعا هناك... و إذا عرف السبب بطل العجب.

في العشريات الأخيرة من القرن العشرين و بداية القرن الواحد و العشرين تم تطبيق منظومة من البادئ التي من شأنها تطوير و عصرنة المؤسسات الحديثة سعيا الى ضمان ريادتها و جودة منتجها في عالم أصبحت سمته التنافس بين المؤسساتالعملاقة ... بدأ الأمر مع منظومة الجودة الشاملة مرورا بمنظومة ضمان الجودة و انتهاء بمنظومة إدارة الجودة... يمكن أن تطبق هذه المنظومات في أية مؤسسة بدء بوزارات الدولة و قطاعاتها و انتهاء بالمؤسسات و الشركات الكبيرة و المتوسطة والأهلية الصغيرة جدا... خلاصة ما تؤدي إليه هذه المبادئ أنها تجعل المؤسسة تسيّر من خلال النظم و المساطر و القواعد و المحددات بعيدا عن الانطباعات و الأمزجة  و الأهواء البشرية شديدة التقلب و التغير... إنها تجعل من المؤسسة قاطرة تسير على سكتها مضبوطة السرعة و الاتجاه و التوجه و يكون دور القائدة في العملية مقتصرا على تعديل محدود جدا لبعض المؤشرات تبعا لتقلبات الظروف المحيطة ضمانا لتوازن القاطرة و استمرارا لحركاتها على سكتها. 

لقد بادرت معظم المؤسسات في عالم اليوم إلى الاستفادة من مبادئ الجودة من خلال تعلم تلك المبادئ و إدخالها إلى عملياتها و أنشطتها اليومية... فكتبت نظم التسيير و صنفت و وضعت المحددات و التوصيفات الوظيفية... و كان من نتيجة ذلك أن مؤسسات كثيرة في العالم نهضت بها تلك المبادئ بينما أخلدت أخرى إلى الأرض فلم تجن سوى التعب مع خسارة أطنان "مطننة" من الأوراق و الحبر في الطباعة و الترويج و اللصق إضافة الى "شهادات الايزو" استجابة لرغبة الممولين و رجال الأعمال الذين يشترطون الحصول على مثل تلك الشهادات الورقية لأجل الحصول على قروض التمويل.... المؤسسات التي قطفت الثمار طبقت المبادئ حرفيا و بكل تجرد و حياد بينما المؤسسات الخائبة اقتصرت على طباعة و تكبير و لصق الشعارات في الوقت الذي ظلت فيه الأمور تسير وفق القواعد التقليدية العتيقة التي لا وزن فيها و لا اعتبار  لنظم التسيير و لا للمحددات و لا للتوصيفات الوظيفية التي تؤدي حتما إلى وضع الشيء المناسب في المكان المناسب... فلا غرو و الحال هذه أن ترى الرأس في مثل هذه المؤسسات البائسة ذنبا و الذنب رأسا... 

من سوء طالع المؤسسات الخائبة أن تكاليف تخليها عن البادئ و النظم المؤسسية لا تحدها الأرقام... فبدلا من الاستفادة من قوة دفع تلك المبادئ و النظم نحو الأهداف الكبرى تجدها تتدحرج في مكان سحيق ملئ بالصراعات الداخلية التي تتغذى من الشعور المرّ بالحيف و قلة الإنصاف ... هذه الصراعات هي في نهاية المطاف مضيعة للوقت و الجهد و ملهاة عن العمل المنتج مع أشياء سيئة أخرى... الشيء الذي تتفاعل عنه مثل هذه المؤسسات هو أنه عندما تطبق  النظم و المساطر و المحددات و المواصفات الوظيفية فلن يكون ثمة مكان لصراع و لا لشعور بضغينة لدى أحد بل سيرضى الجميع بما قسم له ما لم تكن قسمة ضيزى... و ستجد النقابات نفسها –مع اعتذاري لها عن هذا الخبر- عاطلة عن العمل ... وسيعم النشاط و تدب الحركة و تتطور المؤسسات و تزدهر و تثمر.

ربما يتساءل أحدهم مستغربا: ما السر في أن أغلب حملة الشهادات و الدرجات العلمية في مؤسساتنا لا ينتفعون بحملهم بل هم من يمارسون –دون تعميم- أعمالا و أقوالا ﻻ تنسجم مع المبادئ و القيم التي يفترض أنهم يمثلونها كالنزاهة و الصدق و الأمانة و الإنصاف و تقبل الرأي المختلف...؟...  و لعل الجواب-كما أسلفنا- يتلخص في أن المبادئ تنفع فقط عندما يلتزم بها حرفيا و هي حالة مختلفة عن حفظها و ترديدها...  هل ينتفع الحمار بحمله على ظهره مجلدات و أسفارا مليئة بالحكم و المبادئ العظيمة؟
و السؤال الآخر: لماذا تجدي المبادئ نفعا في اليابان و الصين و في أوربا  و أمريكا بينما تفشل هنا؟... الأمر بسيط جدا أيها السادة... لأنها تطبق هناك في تلك البلاد حرفيا بينما يتم التحايل عليها هنا عبر ألف حيلة و حيلة انسجاما و استجابة لأهوائنا و نزواتنا ... هذا هو كل ما في الأمر.

بقي أن نشير الى أن البادئ و القيم المؤسسية الضامنة للتطور و النجاح كل لا يتجزأ... فلا ينفع الأخذ ببعض و إغفال البعض ... فهي-كما يشير السيد كانفيلد- غالبا ما تكون مترابطة و بترتيب متصل حيث يعتمد بعضها على بعض ... إنها مثل القفل الرقمي الذي يحتاج فيه المرء الى جميع الأرقام و يحتاجها بالترتيب الصحيح... و بغض النظر عن لون المرء او جنسه او نوعه او سنه... إذا كان  يعرف الترتيب الصحيح لتلك الأرقام فسوف تفتح له الأبواب ... أبواب النجاح... 

و خير الكلام ما قلّ و دلّ.

د. محمد محمود ولد سيدينا.