الصحراء العذراء
توغل الصحراء فى الظلام، ونوغل نحن فى أسراب من الرمال والجبال. وتتسع بنا ثم تنقبض ثم توسع لقادم جديد، إنه الفراغ ثم الفراغ. لم أكن لأصدق أن حياة قد نبتت هنا لولا مقابر متناثرة تشد من صمت هذه الصحراء. يقول صاحبى إن أصحاب تلك القبور هم رهائن المحبسين الصحراء والقبور. وفى الصحراء صمت يخرس الفصاحة ويفضح البلاغة.
تبدو ناشئة الليل أشد وطئا وأكبر رهبة وصمتا.حين تلتف الصحراء بلحاف من الظلام، تبدو الجبال وكأنها قطع من الليل البهيم. يمدها نفير من الرياح ومن بعده أصوات الحيوان فى ارتدادات موسيقية متراصة ومتكاملة الأدوار و الأنساق. الليل هنا رتيب لا ينفك يخرج عن متتالية الظلام والرياح وقد مزجا بثغاء الشاة وعواء الثعلب.
لكأن الطبيعة أرادت من هذه الصحراء أن تكون صومعة، فى فيها نسك و إعتزال وفيها لمن خاف القلى متحول.
أشعل صاحبى نارا، وجعلنا نتحلق عليها نأنس من وحشة بعضنا ولنفت فى عضد صمت الظلام أو لنجعل شيئا نشازا فى سيمفونية الطبيعة. تجمع القوم على نار أبراهيم ودارت عليهم كأس شاي بلا نعناع. ثم دارت بهم ثانية. وأسترخى القوم وأحييت فيهم نشوة الكأس البوح، وللصحراء و الليل قصة مع البوح قديمة قدم الإنسان.
جال الحديث بالقوم بعيدا بعيدا، وبدء صوت الرياح يخفت ويخفت إلا قليلا ، قبل أن يقطعه صوت رهيب صار يزداد ويزداد . وفجأة دوى صوتا رجت منه الأرض تحتنا رجا. وبدء البوح عند القوم يأخذ مسلكا غير الذى كان. وو جلت من القوم القلوب وتيقن ساقى الكأس أن لناشئة الليل ضيوفا من غير ما موعد.
وسمع البعض يردد مع ولد الطلبة قوله
فقـلـت أمــا للـيـل صـبـح كـمــا أرى؟``````أم الصبـح ممـا هيـج الطيـف أظلـمـا؟
بـلـى كــل لـيـل مصـبـح غـيـر أنـنــي```````أرى الصبح يا للنـاس للصبـح أنجمـا
تسمر الجمع الكرام وأنطفأت النار (وصار فى حديث البعض رماد). وطال الليل واستطالت قطعه، غير أنه والحمد الله لكل شيئ منتهى. وأصبح الله بالصباح وتبين أن ضيفنا كان صخرة جاءت من رأس الجبل.
ذالكم الليل فى صحراء عذراء بحجم وطن.