كنت قد كتبت هذه الشهادة في حق صديق عزيز وأعيد نشرها لتكون بمثابة وداع لهذا الرجل الذي خدم المدينة والوطن بشكل عام وهو يهم بمغادرة مدينتنا في آخر يوم من أيام الشهر الجاري بفعل التقاعد
تستعد مدينة ازويرات، في غضون أشهر قليلة، لتوديع أحد أعز الناس إلى قلوب ساكنتها.. إنه الموظف المخلص لشركة اسنيم وعمالها ومدينتها الحبيبة السيد محمدن ولد الداه. كم هو محزن هذا التقاعد الذي سيجعل ازويرات تخسر جهود وكفاءة وإخلاص أنشط عامل عرفته المدينة منذ إنشائها إلى يومنا هذا!.. كم هو مؤلم أن نرى مدينتنا تودع الرجل الذي جعل لها وجها حضاريا راقيا لم تعهده من ذي قبل!..
لقد تمكن الرجل، بحسن تسييره ونزاهته الفائقة في تدبير ميزانية شركته، من منح مدينة ازويرات، في ظرف قصير، صورة جعلتها أكثر المدن الموريتانية نظافة وأجملها أرصفة وأحسنها تشجيرا.. واليوم تقف ازويرات حائرة أمام قدَر لا محيد عنه.. قدَر يفضي، في نهاية المطاف، إلى تقاعد الرجل الذي كرس حياته المهنية لخدمة الوجه الحضري لمدينتنا، فأصبح السكان يرون فيها المدينة التي بُعثت من براثن الإهمال لتصبح في طليعة المدن الموريتانية الراقية، وأصبح الزائر يرى فيها المدينة العصرية التي تثير حقا حسد الأخريات.
لقد عرفتُ ابن اسنيم، ومحقق طموحات مدينتها العريقة، الإطار الكُفء محمدن ولد الداه، سنة 2004 حينما كان يشغل منصب رئس مصلحة الفندقة في شركة سوماسرت المتفرعة عن اسنيم. كان السيد مقيما في نواذيبو، غير أن العمل يتطلب منه أن يزور ازويرات من حين لآخر. كنت في تلك الفترة أتردد كثيرا على فندق اسنيم، وكنت كلما التقيته أجده رجلا سامق القامة، محافظا على طريقة ونوعية هندامه، بشوشا طليق الوجه، يخيل إلى من يلتقيه لأول مرة أنه يعرفه منذ سنوات.
كان الرجل حينها قد انتهى من وضع هيكلية إدارية جديدة قادرة على إنجاح مصلحته، وبموازاة مع ذلك استجلب ملابس خاصة للعمال كانت الأولى والأخيرة في تاريخ الشركة إذ ما يزال بعض العمال يحتفظ بها حتى الآن.
ومن أجل تفعيل عمل الفندقين التابعين لاسنيم في كل من ازويرات وانواذيبو، استجلب ولد الداه مجموعة من التجهيزات التي تضمن لهما تقديم أفضل الخدمات: تمثل ذلك في الأفران والغسالات وبعض المعدات التي جعلت الفندقين يأخذان مكانتهما اللائقة كأشهر فنادق المنطقة.
وفي شهر أكتوبر من سنة 2007 تمت إعادة ولد الداه للشركة الأم تمهيدا لتعيينه، فاتح يناير 2008، على رأس مصلحة صيانة الطرق والمباني في مدينة ازويرات. في تلك الفترة كانت مياه الصرف الصحي تتفجر باستمرار محيلة الشوارع العامة إلى قاذورات تبعث بروائح نتنة في كل الاتجاهات. في كل مرة، وفي أكثر الأوقات حساسية، كانت مياه الصرف الصحي الملوثة "تستقبل" معنا الرؤساء والوزراء والوفود الرسمية، فنضطر، في أحايين كثيرة، لتغيير مسار الموكب تلبيسا على الفضيحة ومخافة التأثر بتلك المشاهد الفظيعة والروائح المزعجة.
كانت مدينة ازويرات جرداء باهتة.. لم يكن فيها أي نوع من الأرصفة ولا الأشجار، وكانت الأوساخ المسيطر الأكبر على شوارعها، ولم يكن عدد عمال المصلحة المعنية يتجاوز 11 عاملا رسميا وحوالي 200 من العمال غير الدائمين (الجرنالية). لم يكن لدى هؤلاء أي نوع من الآليات المطلوبة ولا الوسائل اللازمة، فكان لا يزيد ما لديهم على شاحنتين وسيارة تجاوزت أعمارَها الافتراضية بسنوات وسنوات. كانت المسكينة الأولى شاحنة مكب، والوضيعة الثانية صهريجا، والموبوءة الثالثة سيارة شطف. كانت المصلحة تعتمد بالأساس على تأجير سيارات كبيرة من الخواص. ولأن الرجل، الذي وصل للتو إلى رأس المصلحة، يطمح للقيام بعملية إصلاح شاملة وجادة، لاحظ أن ثمن تأجير الشاحنتين والسيارة يمكن به، وحده، شراء شاحنتين في كل سنة لصالح المصلحة. لهذا فسخ العقد مباشرة مع الخواص وشرع في إجراءات استيراد شاحنتين لنقل القمامة. وبدأ في تجهيز المصلحة منذ ذلك الوقت وبدعم قوي من إدارة مقر الاستغلال التي كان يتربع عليها آنذاك المدير التجاري الحالي لاسنيم السيد محمد فال ولد اتليميدي. وهنا بدأت عمليات استيراد التجهيزات الضرورية التي جعلت المصلحة قادرة على القيام بالمهمة المنوطة بها.
انطلقت خطة العمل مع بداية شهر يناير من نفس السنة، فتحولت ازويرات إلى ورشة دائمة: حركة لا تكل، عمل دائم، أزيز شاحنات، تنظيف أزقة، شطف مياه راكدة، غرس أشجار مزهرة، وتصفيف أرصفة وحواف..
اختار ولد الداه استعمال الحجارة المحلية والاسمنت لوضع الأرصفة على أهم الشوارع في المدينة العمالية ذات القيمة التاريخية المعروفة. أتذكر في هذا الصدد انتقادات بعض الساكنة الذين كانوا يتهكمون على الرجل ويعتبرون مجهوده ضربا من العبث والفساد المتمثل في تبديد الاسمنت في أغراض تافهة قبل أن يكتشفوا لاحقا أهمية الأرصفة ودورها في تزيين المظهر العام للمدينة. لقد ندموا على تهكمهم به وفهموا أنه كان جادا وأن أفكاره كانت ثورة عمرانية حقيقية.
شملت خطة ولد الداه تشجير الشوارع العامة في الأحياء العمالية من خلال استجلاب أنواع من الأشجار المستوردة من المغرب ومن مشاتل في انواكشوط والسينغال.
بدأت عملية التشجير بالتزامن مع الأرصفة وأقيمت، ضمن نفس الخطة "الثورية"، مساحات خضراء تضفي للأحياء العمالية منظرا يخيل به إلى الرائي أنه يتجول في إحدى البلديات الأوربية الصغيرة.
وبموازاة مع هذا العمل الدؤوب، استجلب رجل "ثورة العصرنة"، الذي لا يعرف الإهمال والكسل، أضواء خاصة لإنارة مواقع التشجير والساحات المزروعة، فيما استورد مقاعد من أوربا تم تثبيتها بجانب مساحات مزروعة على حافة الطريق العام ما وفر للساكنة فرصا للتنزه واستنشاق الهواء الطلق.
وعلى مستوى النظافة، بدأ ولد الداه فور تعيينه على المصلحة في استجلاب عينات من حاويات الأوساخ بعضها صغير مثبت على الطرقات وبعضها متوسط الحجم مثبت في بعض المواقع العمومية، كما استجلب حاويات كبيرة وضعت في الساحات العامة واستجلب أيضا شاحنات مخصصة لإفراغها من الأوساخ.
وتمشيا مع الخطة الاصلاحية، انطلق في تنفيذ برنامج مدروس لتجديد شبكة الصرف الصحي، وشُكلت فرق لتنظيف الأتربة والأوساخ بشكل يومي وعلى مدار الأسبوع مما ساهم في غياب مظاهر اعتادت عليها المدينة من تسرب مياه الصرف الصحي في الشوارع العامة مما كان يخلق مظهرا مقززا لا يتلاءم وقدرة وسمعة الشركة التي على أساسها شُيّدت المدينة.
بعد 6 أشهر من العمل الجاد، وبالذات في 21 يوليو 2008، بعث المدير العام للشركة، السيد محمد عالي ولد سيدي محمد، رسالة تهنئة وتقدير وعرفان بالجميل للرجل. وعبر المدير العام في رسالته عن رضاه التام عما شهدته حالة المدينة من تحسن قائلا بأن عمال اسنيم وجميع ساكنيها يعترفون بهذا التطور السريع ويقدرونه حق قدره.
وأتذكر في تلك الفترة أنني كنت في سيارة أتجول مع المدير العام السيد محمد عالي ولد سيد محمد الذي تربطني به علاقات قوية. ولما مرت السيارة بأحد الشوارع التي شملتها عملية الإصلاح نبهته على التحسينات التي طرأت على المدينة بفضل تفاني الرجل في عمله، فأستوقفني قائلا: "مع العلم أن الرجل يعمل بنفس الميزانية التي كانت تتوفر عليها المصلحة قبله، إذ لم نزدها بفلس واحد". فهمت حينها أن الأمر يتعلق بإرادة إصلاح لا تقهر، وقوة همة لا تبارى، وتضحية من أجل الوطن لا مثيل لها .
ولأن المدير العام يمثل رأي الشركة الرسمي، كان لابد لمناديب العمال من إبداء رأيهم الخاص، فأتحفوا الرجل برسالة تهنئة على مجهوده. كان ذلك في يوم 5 من شهر نوفمبر سنة 2009. جاء في تلك الرسالة التي تعبر عن تثمين جلي: "يلاحظ المناديب التحسن الملحوظ لوجه مدينة ازويرات الذي اتضح لكافة سكان المدينة وزائريها منذ تكليف رئيس مصلحة الصيانة بهذه المهمة. وقد طلبوا من الإدارة العامة تشجيع هذا السيد ودعم نشاطه وجهوده الساعية إلى التحسين المستمر لمظهر المدينة العمالية، ما يترتب عليه تحسين ظروف حياة العمال وأسرهم".
وهكذا كان الرجل محل إجماع من قبل الإدارة الرسمية والمناديب النقابيين والوفود بشتى تخصصاتها والسكان القاطنين والزائرين غير المقيمين.
خلال زيارة رئيس الجمهورية محمد ولد عبد العزيز لازويرات نوفمبر 2010 استوقفه المظهر الجديد للأحياء العمالية فترجل من موكبه ليقف بشكل مباشر على طبيعة العمل الذي تم إنجازه، فأبدى إعجابه بما تم تحقيقه بعد أن سأل عن طبيعة ومصدر المواد التي صنعت منها الأرصفة والأشجار الجميلة المستوردة. وخلال سنة 2012 تم تكريم السيد محمدن ولد الداه من طرف رئيس الجمهورية. وفي فاتح يناير من السنة الموالية تم تكريمه من قبل الإداري المدير العام للشركة محمد عبد الله ولد أوداعه فعينه على دائرة الإطار المعيشي، وهي دائرة تتبع لها المصلحة التي كان يشغلها ومثيلتها في انواذيبو والمخازن الغذائية للشركة في المدينتين.
وخلال هذه الفترة أنشأ ولد الداه مساحات خضراء داخل المدينة مزودة بأعمدة كهربائية حديثة تحت إشراف إدارة المصادر البشرية للشركة مما أعطى للأحياء العمالية مظهرا عصريا لائقا، كما تم تحت إمرته تشييد وحدات صحية حديثة في كل من اتميمشات وشوم و اتواجيل والمكاتب العامة في ازويرات وموقع To14 بكدية الجل وكلب الغين ولمهودات.
وخلال سنة 2014 وفي وقت كان فيه عمال كل مواقع الإنتاج، باستثناء عمال المناجم، يستغلون زوايا المكاتب ويستظلون بها لتناول وجباتهم الغذائية اليومية، شيد محمدن ولد الداه في كل هذه المواقع 7 قاعات كبيرة مخصصة للأكل تضم حمامات ومرافق صحية مزودة بالماء وأجهزة السخونة لتنضاف إلى 8 كانت موجودة في مواقع الاستخراج المنجمي منذ عهد ميفرما وبقيت على حالها المتهالك إلى أن قيض الله لها هذا الإطار المثالي فأشرف على إعادة تأهيلها من جديدة خلال نفس البرنامج مضيفا إليها أحواضا مجهزة بحنفيات للوضوء.
وفي يوم 16 من شهر يوليو 2015 تمت ترقية ولد الداه رئيسا لقطاع الموارد العامة فبدأ فترته بفرض "بادجات" على عمال الشركة والزوار من أجل ضبط كل من يدخل أو يخرج من مواقع العمل في الشركة.
ذلك هو الموظف المثالي محمدن ولد الداه الذي جمع بين الصرامة في العمل والخلق الرفيع تجاه العمال.. نعم، ذلك هو الموظف الكُفء الذي تبكيه اليوم مدينة ازويرات بعد أن منحها ما لم يمنحها غيره من النشاط البناء، وبعد أن ألبسها ثوب العصرنة وكساها زي الرقي في صمت لا يريد صاحبه من ورائه إطراء ولا مدحا ولا رياء.
لقد تميز محمدن بقدرته الفائقة على كسب ثقة رؤسائه في العمل من خلال إتقانه للمهام التي يكلف بها، فعبروا كلهم، في مجالسهم الخاصة، عن ثقتهم العالية فيه لقيامه بمهماته في وقت قياسي ودون ضجيج. أتذكر في هذا الصدد أن أحد الأطر في شركة اسنيم كان، في حديث معي، يثني عليه، معتبرا مأخذه الوحيد عليه هو جاهزيته الدائمة لتنفيذ أوامر رؤسائه، ولعل ذلك الإطار لم يكن يفهم أن الأوامر الصادرة من هرم فوقي يعتبر تنفيذها إحساسا بالمسؤولية وجدية في العمل ما لم تتعارض مع النصوص.
ومع ثقة الرؤساء، استطاع محمدن أن يحصد ثقة العمال التابعين له الذين يكنون له احتراما قل نظيره، فهو الذي سعى لإنصافهم، وعمل على دمج أكثريتهم في اسنيم بعد أن ظلوا لفترات طويلة ضحية الاستعباد المقنّع المتمثل في الجرنالية، كما قادهم في العمل بعطف الأبوة بعيدا عن العجرفة والعنف اللفظي والعقوبات الردعية. أتذكر في هذا المجال قصة له خلال السنة الماضية عندما تشاجر أحد العمال المشاكسين مع رئيسه الذي يتبع له، فقام الرئيس بمنح العامل استفسارا مع إيقافه عن العمل لفترة 8 أيام، وهي خطوة تسبق الفصل عادة. ولما وصل الملف لمحمدن استدعى المسؤول الذي قدم الاستفسار والعقوبة فقام بوعظه وأخبره أن هذه العقوبة كبيرة وأنه من المفترض أن يتبعها الفصل، منبها إياه إلى أن الفصل يجب أن لا يكون هدفا بحد ذاته، بل الهدف هو تصحيح سلوك العامل، وعليه فإنه سيقلص الأيام الثمانية إلى يومين وهو ما قبله المسؤول بعد أن شرح له أن هناك خطوات كثيرة كان ينبغي اتخاذها قبل الوصول إلى هذه الخطوة، الأمر الذي قاد إلى تسوية المشكلة وكسب رضا المسؤول والعامل في نفس الوقت.
لقد ظل محمدن مدرسة حقيقية. فلا يتفق المنجميون على شيء مثلما يتفقون على أنه كان مدرسة في الأخلاق، مدرسة في الجدية، مدرسة في المرونة، مدرسة في النزاهة ومدرسة في النشاط العملي. كان يلعب دور المدرسة بالنسبة لكل العمال التابعين له إذ يرى أن المسؤول يقع عليه عبء تأطير عماله فيبدأ الواحد منهم يتمرن رفقته على العمل والصرامة والجدية والمرونة وكسب المعارف، ورويدا رويدا يصبح العامل موظفا يعي مسؤولياته ويفهم دوره ويقوم بمهمته على أحسن وجه.
يظهر محمدن براعة كبيرة وسرعة فائقة في تنفيذ المهام الحساسة والصعبة التي تكلفه بها إدارة الشركة كالتهيئة لزيارة كبار الشخصيات مثل رئيس الجمهورية أو الوزراء أو الشخصيات السامية، الأمر الذي جعله يكسب ثقة الإداري المدير العام الحالي لشركة سنيم السيد محمد سالم ولد البشير، فخلال فترة قياسية يحول محمدن المنصة وساحتها إلى لوحة بديعة تتماشى مع سمعة ومكانة الشركة. وقد حول المنصة الرسمية والساحة التابعة لها إلى تحفة للزائر بعد تشجيرها وإحاطتها بشباك. كما يتم استدعاؤه في كل مرة كلما حلت زيارة رئاسية لإحدى منشآت سنيم على طول السكة الحديدية باعتباره المسؤول الوحيد الذي يمكنه إنجاز هذا العمل في وقت قياسي وبالمستوى المطلوب لأن عمله كان دوما محل ارتياح مدراء الشركة المتعاقبين.
لم يكن محمدن ولد الداه يمارس السياسة على الإطلاق، إلا أنه بعد توجه أغلب أطر الشركة إلى العمل السياسي كان من بين الأطر الذين اقتحموا المجال. وفي الوقت الذي كنا نحن نبذل جهدا مضنيا في جمع عدد أفراد وحداتنا القاعدية خلال فترة تميزت بارتفاع درجات الحرارة، كان فيه العمال التابعون لمحمدن يعرضون عليه بطاقات تعريفهم من أجل تشكيل وحدات قاعدية لصالحه في حميمية فريدة بين رئيس ومرؤوس في شركة دعت إدارتها إلى تقوية أواصر العلاقة بين الطرفين خدمة لعملية الانتاج.
كانت بطاقات التعريف "تتهاطل" على الرجل في مشهد بديع ينم عن مدى حب العمال له وتعلقهم به وتقديرهم لمكانته.
لقد حظيتُ، في السنة الماضية، بتأدية مناسك الحج رفقة محمدن. وكم لفت انتباهي حرصه على شراء مقتنيات وهدايا أكثر من الحاجة الطبيعية لأي حاج. فاستشكل علي الأمر مما دعاني لاستفساره عن الهدف من شراء كل هذه الحوائج، فرد علي بقوله: "لا أريد أن أعود إلى ازويرات، ويدخل علي عامل دون أن تكون بجانبي هدية أقدمها له". لقد دأب على تذكّر العاملين معه، وأخْذ علاقاته بهم في الحسبان، وإرضائهم كلما أمكنه ذلك. وهو ما جعله، إضافة لكل ما سبق، يحتل مكانة خاصة في قلوبهم.. لكن هؤلاء العمال يقفون اليوم حيارى أمام قدَر "فني" لا سلطة لهم عليه. انه غول التقاعد الذي يتسلل الآن إلى مكتب ولد الداه دون أن يستأذن أي أحد!!.
وشيئا فشيئا يقترب دجمبر حاملا معه دموع الوداع الحار، وشيئا فشيئا يقترب يوم الوداع الحزين بين شوارع مدينة لم تتزين من قبلُ وموظف أمضى مشواره النظيف في خدمة ازويرات.. وكلما اقترب دجمبر اقترب يوم الوداع المؤلم بين عمال لم يعرفوا الرحمة من قبلُ وموظف خلوق مرن عطوف.. ويبدأ العد التنازلي ليوم الوداع حين تتخلى اسنيم عن ابنها البار وتفقد المدينة من أخرجها من سُبات البداوة إلى مصاف الرقي.. إنه الموظف محمدن ولد الداه الذي دخل الشركة بصمت مهيب وسيخرجها بصمت مهيب..