تدوينة للإداري السابق محمدن ولد سيد الملقب بدنه بمناسبة رأس السنة في مثل هذا اليوم من سنة 1992 ، كنت حاكما في إحدى المقاطعات في الداخل ، فأحال إلىَّ الوالي تعميمًا مرسلا بواسطة شبكة الإتصال الإداري في وزارة الداخلية يوجهه معالي وزير التوجيه الاسلامي آنذاك الاستاذ أبو بكر ولد أحمد إلى جميع الولاَةِ يتضمن تعليمات صريحة بمنع " أي تظاهرة تنظم في مكان عمومي تخليدا لرأس السنة الميلادية ". حملت نسختي من التعميم تعليمات من الوالي تلزمني بالتنفيذ .و قد صادفت تلك التعليمات السامية المدعمة هوًى في نفسي فبادرت بدوري إلى إحالة التعميم إلى السيد مفوض الشرطة بالمدينة أطلب منه التنفيذ الصارم لمقتضيات ذلك التعميم الهام الصادر من أحد أعضاء الحكومة و الحاكم كما هو معلوم يمثل رئيس الجمهورية و جميع أعضاء الحكومة . لم تمضِ الساعة حتى فوجئتُ بالمفوض يدخل عليَّ المكتب ليخبرني أنه يعد العدة لتأمين سهرة فنية مرخصة من قبلُ من قبَلنا تستعد المفتشية الجهوية للشباب و الرياضة لتنظيمها ليلة الحادي و الثلاثين دجمبر في دار الشباب تخليدا لرأس السنة الميلادية 1993. قلت في نفسي أما هذه فتستجيب بجدارة للشروط الثلاثة المرسوة . و بطبيعة الحال لم أجد عناءً كبيرا في إقناع المسؤول الأمني بأن ذلك الترخيص أصبح لاغيا بموجب التعليمات الجديدة . و يبدو أن رئيس المصلحة الجهوية المعني قد بلغ في التحضير لذلك الحفل المعتاد درجة لم يعُدْ معها يستطيع التراجع ، و لست أدري بأي منطق استطاع أن يقنع السيد الوالي بمنحه الاستثناء من أجل تنظيم تلك التظاهرة ليلتئذٍ ، فصدرت التعليمات الشفهية مباشرة من الولاية إلى الشرطة لتأمين النشاط المطلوب دون أن أبلغ بذلك. و لمحض الصدفة كان المدير الجهوي للأمن غائبا و يخلفه المفوض في العمل وكالةً بموجب القانون .و الادارة الجهوية تابعة للولاية و المفوضية تابعة للمقاطعة و هكذا أصبحت لدى المفوض تعليمات متناقضة من سلطتين إداريتيْن إحداهما من الوالي بصفته المدير الجهوي وكالةً و الثانية من الحاكم بصفته المفوض ! و هكذا أسرَّ إليَّ المفوض بالأمر و صارحني بالحرج الكبير الذي يجد فيه نفسه بسبب هذه الوضعية الغريبة . و معلوم بالضرورة أن المفوض لن ينفذ إلا تعليمات السيد الوالي الذي هو السلطة الادارية العليا و لكن لحسن الحظ فقد كانت لدي حجة قوية إذ قلت له : من أين لك أن ترجح تعليمات شفهية مناقضة للقانون على تعليمات مكتوبة و لو كانت صادرة من سلطة أدنى ؟!فلو أن الوالي أصدر إليك تعليمات مكتوبة لزال الاشكال ..و كنت على يقين من أن الوالي لن يتجرأ على كتابة تعليماته تلك لما قد يترتب عن ذلك من خطر . بعد نقاش طويل قررنا أن نلتحق بالوالي في منزله علنا نتوصل إلى حل يرفع الحرج عن المفوض .. و هنا جرى نقاش طويل تبينتُ من خلاله إصرار السيد الوالي على تنظيم تلك التظاهرة و حرصه على أن تظل تعليماته شفهية لا كتابية ، فرضخت للأمر الواقع و لكن بحيلة إدارية ترفع الحرج عني و عن المفوض على حد سواء ، إذ قلت للسيد الوالي : إن برقية معالي الوزير موجهة إلى الولاة لا الحكام و ما كان لها أن تصل إلي لولا إحالتكم إياها مشفوعة بتعليمات صريحة بالتنفيذ ، فأقترح كحل وسط أن تستعيدوا مني نص البرقية و على ذلك الأساس ينتفي مبرر رسالتي إلى المفوض بصورة تلقائية . و لم أعد أتذكر درجة استجابة الوالي لذلك الاقتراح الذي ارتاح له المفوض أيما ارتياح ! طوي الملف ليلا قبيل الموعد الرسمي لانطلاق الحفل و لم يزل تفكري في ذلك الموقف الغريب من ذلك المسؤول السامي في الدولة حتى علمت في ما بعد أن زوجته المحترمة كانت تتبوأ مكانة الصدارة ضمن لائحة المدعوين في ذلك الحفل البهيج !! رحم الله السلف و بارك في الخلف .