اظهرت الأزمة الصحية الحالية الناجمة عن جائحة كوفيد١٩، عدة اختلالات ونقاط ضعف في مختلف انظمتنا الأمنية والصحية والغذائية وحتى السيادية فكانت بمثابة تمرين محاكات لنا - لكنه حقيقي - كشف وللوهلة الأولى هشاشة استقلالنا عن الآخرين ومدى اعتمادنا عليهم حتى في لقمة العيش.
تبين لنا - وكأننا لم نكن نعلم - ان امّة لا تملك ما تقتات به من داخل حدودها، لا معنى حقيقة لسيادتها بل ربما كان الافضل لها ان لا تسعى لنيل الاستقلال أصلا... فإما أن نشمّر عن سواعد الجِدّ و نستأنف أمجاد الأجداد باستكمال السيادة وتشييد "وطن كبير لامة عظيمة" أو نبقى نمدّ ايدينا ونفتح أفواهنا ونعيب زماننا....
والاعتماد على تكفف الدولة وذوي السّعة والفضل من داخل البلد وخارجه لا يجدي نفعا فتوزيع الإسعافات والمساعدات لا يعوّل عليه لتأمين العيش الكريم لشعب غالبيته الساحقة محتاجة والباقون على اثرهم... وطريقة اليد في الفم هذه تفضي حتما إلى تمادي المواطن في الاتكالية و عزوفه عن زراعة الأرض على الأقل لحصد ما يأكل.
ان من آكد أولويات البناء - وما أكثرها - الإقبال على الزراعة بإرادة صادقة وعزيمة صلبة وخطى ثابتة وتخطيط محكم حتى نضمن اكتفاءنا الذاتي من الغذاء وهنا لا بدّ من القطيعة البتة مع النهج المتبع في الحقب المتتالية الماضية حيث دأبت الدولة على تهيئة الخطط الانمائية وتعبئة التمويلات الهائلة وتوزيع القروض الميسرة واستصلاح الأراضي الشاسعة و افتتاح الحملات الزراعية الرائدة ولا نجني من تلك العبارات الرنانة والوعود الزائفة البراقة ولا حبة خردل.
كفا تلاعبا بمصيرنا . كفا تنكرا لوطننا. كفا كذبا على أنفسنا...
الزراعة تتطلب اليد العاملة المؤهلة تقنيا والقابلة للتكوين المستمر ونقل الخبرات، واستصلاح الأراضي وبناء السدود وتخزين البذور واقتناء المعدات وهذا برمّته متاح فالأراضي الصالحة للزراعة بموريتانيا حسب المنظمات الدولية تربو على نصف مليون هكتار لا يستغلّ منها حاليا أكثر من ٩ في المائة واليد العاملة متوفرة والتمويلات لم تكن يوما صعبة المنال إنما الحفاظ عليها هو العائق الأكبر... لكن كل هذه المقدَّرات الموجودة لن تؤتي اكلها ما لم يوجد إطار و توجه عام يهدف أولا إلى الرفع من مستوى الزراعة والمزارعين وحمل الشباب خاصة على العمل بتشجيع من المستثمرين و وضع آلية لمتابعة وتقييم البرامج والمشاريع. فكم من مشروع طموح بدأته وزارة الزراعة في ضواحي كبريات المدن والمناطق الزراعية في الضفة وغيرها، حمل آمالا جِساما وأهدرت فيه أموال معتبرة و ترك عرضة لزحف الرّمال و عبث الحيوانات.
لقد أصبح الإهتمام بالزراعة مطلبا وطنيا لا يختلف اثنان على ضرورة البدء به فاللوازم والمصادر كافية والمبررات جلية والاهداف ملحة ولا يبقى سوى الإرادة السياسية وتوجيه المواطن لرفع التحدي.
لا نريد حملة زراعية ولا سنة زراعية ولا تلك الشعارات الجوفاء التي لا تتعدي شفاه مطلقيها... بل برنامجا متكاملا واضح المعالم والاهداف يقوم على معطيات علمية حديثة وتجارب أثبتت مردوديتها، مدعوما بارادة سياسية قوية هدفها الأوحد تحقيق الأمن الغذائي لشعبنا - ولنحذر مغبة تصديره للخارج... - حتى نستكمل جزءا مهمّا من سيادتنا ونستعيد الثقة في أنفسنا ونبني اجيالا قادرة على النهوض بقطاعات أخرى لا تقل أهمية عن الزراعة.
حفظ الله الوطن
القاسم ول المختار