لهول صدمة الخبر، ولفداحة الرزء، تأخرت كثيرا عن تأبين صديقي الطيب، الودود، الموطأ الأكناف، فقيد ساحات النضال النقابي حماده ولد بلال. ففي ذلك اليوم النحس، وأنا مقبل على شأني، خالي البال من مكدرات الحياة، هاتفني أحد الأقارب، انطلاقا من معرفته لمكانة الفقيد عندي، ليخبرني أنه توفي للتو في العيادة المجمعة لشركة اسنيم، وأن المسؤولين هناك يبحثون عن أحد المقربين منه للقيام بالإجراءات الضرورية. نزل الخبر كالصاعقة علي، فالراحل يرمز بالنسبة لي لسنوات طويلة ظلت حبلى بالصداقة والأخوة والنشاط المشترك إذ خضنا فيها معا، بمدينة ازويرات، مطبات السياسة، ومعًا فيها اجتزنا لجج العمل الاجتماعي العصيب.
ما كان لي أن أصبر الفاجعة، فتعثرت قدماي وأنا أحاول الخروج صوب سيارتي، رغم ذلك ركبت وتوجهت إلى العيادة فتجاوزتها دون أن أدري، ثم عدت أدراجي لأصلها بعد فترة من التيه. وكم تعاظم الخطب واسودّت الدنيا في عيْنيّ لما رأيت سيارة الفقيد مركونة وكأن الحزن استبد بها أو كأن يقينيات مطلقة أوحت إليها أن رفيق حيويتها ومالك زمام أمرها وصاحبها المخلص لن يعود أبدا.
خلال دقائق، وصل مدير مقر الاستغلال بشركة اسنيم وملحقه الإداري، ممثليْن للشركة من أجل الإشراف على إجراءات نقله، عبر سيارتين عابرتين للصحاري، إلى قرية النباغيه (حيث العلامة اباه ولد عبد الله وحيث الحضرة الصوفية التجانية) استعدادا لدفنه إلى جانب ذويه وبالقرب من أحبته وعشيره.
أمام المشهد الرهيب، بدأت الجموع تتوافد على العيادة التي لم تعد قادرة على استيعاب المزيد لينقل جثمان الفقيد إلى مسجد بلال، وهناك التأم شمل الجميع بكل أطيافهم ومشاربهم السياسية والنقابية وشرائحهم لإلقاء نظرة الوداع الأخير على صديق الجميع وحبيب الجميع، فالراحل وحّدهم في وفاته بعد ما فعلها في حياته.
كان آخر عمل يقوم به الراحل، قبل وفاته بثلاث ساعات لا أزيد، مسعاه الحميد لإصلاح ذات البين بين مندوب عمالي انتخب قبل أيام وعمال في عيادة سنيم، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. وفي الليلة التي سبقت وفاته، كان يدير حوارا ساخنا بين مناديب عمال شباب أفرزتهم آخر انتخابات عمالية عن عدة مركزيات نقابية متنافرة من أجل تقريب وجهات نظرهم، فالراحل لا يرى في الحياة غير فرصة عابرة يجب أن تقارب أكثر من أن تباعد.
لقد رافقت الابتسامة محياه أينما حل وارتحل.. أتذكر موجة الغضب العارم التي انتابت بعض العمال من نتائج اجتماع للشركة مع المناديب لم تكن مرضية بالنسبة للمتطرفين من العمال الذين يصفون المناديب، رغم المكاسب الكثيرة التي حققوها للعمال، بـ"المرتشين"، فتنادوا إلى مقر المناديب، وأمام موجة غضب العمال وشراستهم توارى جميع المناديب خوفا من ردة فعلهم غير المحسوبة، إلا أن الراحل كان يخرج إليهم وحيدا ليحدثهم فيواجه تهديداتهم وهجومهم بابتسامته المعهودة.
لم يتفق سكان مدينة ازويرات على شيء أكثر من اتفاقهم على حسن وطيبة الراحل، فقد كان الناصح المرشد والسياسي المحنك والعامل المنتج.
لقد كان المغفور له بإذن الله يتولى بنفسه الترتيبات المتعلقة بأخذ الحصص الغذائية لعشرات العمال في الشركة من المخزن الغذائي الخاص بالعمال الذي يكلف العامل جهدا كبيرا ووقتا طويلا للحصول على حصته الشهرية منه، ثم يوزع الحصص عليهم في منازلهم دون أن يتكلفوا أي عناء. لقد استطاع بأخلاقه وحسن سيرته أن يحفر مكانا كبيرا لنفسه في قلوب مئات العمال وأسرهم وآلاف الأفراد من قاطني ازويرات لذلك بكوه كثيرا وحكوا كثيرا عن شخصيته الوديعة وبساطته وحسن أخلاقه وبشاشته الدائمة التي أقنعت الرأي العام العمالي المحلي أن اختيار اتحاد العمال الموريتانيين له مندوبا نقابيا، قبل سنوات، لم يكن اعتباطيا، ولعله عكس حكمة وبُعد نظر الاتحاد.
والحقيقة أن وفاة المغفور له حماده مثلت خسارة للعمل النقابي من الصعب تعويضها، كما مثلت خسارة لمعاني المروءة ومضامين الوفاء والنزعة الأخوية الدائمة التي جعلت منه أخاً لكل من لقيه أو عرفه مؤكدا بذلك أنه بالفعل "رُبّ أخ لك لم تلده أمك".
سقت قبره غمائم الرحمة، وأسكنه الغفار فسيح الجنان، وألبسه درع العفو، وألحقه بالصديقين والشهداء، وألهمنا وذويه الأكارم الصبر والسلوان، و"إنا لله وإنا إليه راجعون"..