تقرير / ازويرات ميديا
محمد محمود ولد بهناس: إسم تعرفه شوارع ازويرات، وورشات اسنيم، والمصالح الحكومية، والحوانيت، والمقبرة... كل الأزقة في مدينة ازويرات تعرف مكارم الفقيد محمد محمود، وكل فج، وكل درب، وكل ملتقى طرق يعرف رائحة مسكه ورشاقة هندامه.. كل طفل في المدينة سمع عن ذلك الرجل الذي فاق أقرانه في المروءة والنخوة والجود. إننا في مدينة ما تزال تتذكر شيخها وما تزال تبكي خصاله الجمة. كان محمد محمود ولد بهناس عاملا في شركة ميفيرما قبل تأميمها، ثم تحول إلى رب عمل في مؤسسة خاصة به، ليجذبه الطموح السياسي فيصبح شيخا في البرلمان الموريتاني. ذلك هو المسار الوظيفي للفقيد، لكنه لا يمثل أي شيء بالمقارنة مع مسار علاقاته وصيته الذي انتشر كالنار في الهشيم في تيرس الزمور وموريتانيا وخارج حدود البلاد. لقد قررت وكالة ازويرات ميديا، برورا منها لمن ساهموا في بناء المدينة المنجمية، ومن تركوا بصماتهم في تاريخها، أن تجري بحثا حول حياة هذا الفقيد، وتتحف به قراءها على أمل أن يكون فاتحة لمجموعة تقارير حول من قضوا نحبهم من الذين خلدت مدينة ازويرات أسماءهم في سجلاتها التاريخية.
لما سمعت "بهناس" لأول مرة
وصلت مدينة ازويرات، لأول مرة، في نهاية سنة 1980 ، وبالذات في شهر أكتوبر رفقة خالي المرحوم إسلمُ ولد الحسن الذي كان يعمل في قطاع الجمارك وحُوّل تعسفيا لتوه إلى افديرك من طرف الرئيس الأسبق محمد خونه ولد هيداله على خلفية اتهامه بمساعدة ابن عمه مالكيف ولد الحسن على العبور إلى السينغال للإلتحاق بحركة التحالف من أجل موريتانيا ديمقراطية (AMD) في الخارج، وخاصة جناحها المدني. كان في استقبالنا في مطار ازويرات المهندس محمد السالك ولد هيين الذي كان يشغل، في تلك الفترة، رئيس قطاع المناجم في الشركة الوطنية للصناعة والمناجم (اسنيم) وحرمه، ابنة عمنا السيده فاطمه بنت أحمد بمبه ولد ابراهيم اخليل. وقد أقمنا ثلاثة أيام في منزلهما. ولما هممنا بالمغادرة إلى افديرك، رفضا مغادرتنا بحجة أن مدينة افديرك لا تتوفر فيها إعدادية يمكن أن أتابع فيها دراستي رغم أنها كانت في تلك الفترة عاصمة الولاية وأن الجمارك، خلال نفس الفترة، لا يتوفر لديهم أي نشاط فيها. اقتنعنا بهذه الحجة، وأقمنا معهما في منزلهما داخل الحي الخاص بأطر سنيم قبل أن يتم اعتقال خالي على خلفية المحاولة الإنقلابية المدبرة يوم 16 من شهر مارس من سنة 1981، وينقل إلى انواكشوط، فيما واصلت دراستي في مدينة ازويرات خلال الأشهر المتبقية من السنة قبل عودتي إلى انواكشوط. خلال فترة إقامتي مع أسرة أهل هيين، كانت كلمة "بهناس" تتردد كثيرا على ألسنة الأسرة وزوارها الذين يعمل معظمهم في شركة سنيم من أمثال عبد الله ولد داداه وعبد الله ولد عبد الفتاح والديين وغيرهم من أطر شركة سنيم بالإضافة إلى صديق الأسرة المرحوم الحضرمي ولد بيديه الذي كان يدير آنذاك شركة dodin ويتردد كثيرا على الأسرة. لفت انتباهي هذا الإسم الذي لم يكن من الأسماء التي تعودت على سماعها في منطقة الجنوب الموريتاني. بعد تحويلي إلى مدينة ازويرات نهاية 1987 كان الإسم قد بلغ منتهاه حيث أضحى على لسان الجميع لأن السيد محمد محمود ولد بهناس كان معطاءً، حاتمي اليد، موطأ الأكناف، في شكله وسامة وفي مضمونه هيبة. كان رجلا متوسط القامة، أنيقا، تشعر بقرب إطلالته عندما تفوح في الشارع رائحة أفضل العطور الباريسية. كانت ملابسه جميلة مرتبة بإتقان شديد.. كان ينتقل في أجمل موديلات السيارات، في حين أنه كان متواضعا جدا وشعبويا إلى حد كبير، يحب مجالسة العامة والحديث مع الجميع. قال عنه أحد معارفه ان "يمينه كانت تعطي دون علم من يساره". إنه التعود على صدقة السر بأبهى صورها.
باب لا يوصد
عند بحثنا حول المرحوم محمد محمود ولد بهناس، بغية الوقوف على مميزات شخصيته وأسباب نجاحه في الحياة، التقينا بأخيه غير الشقيق، السيد إبراهيم ولد اخيار، وجيه آدراري، مالك متحف أماطيل بعين أهل الطايع، المخصص لآثار المقاومة. ذكر لنا، من بين ما ذكر، أن "المرحوم ولد في تكانت حوالي سنة 1931 عندما لجأ إليها والداه في زمن الشدة بحثا عن الزرع في سنة شهباء تعرف بـ"هجرة سيد أحمد ولد أحمد عيده".. بعد فترة انفصل والداه. فعادت أمه إلى آدرار حيث تزوجت مرة أخرى. بعد سنوات عاد هو إلى آدرار شابا يافعا فوصل منطقة لغليكات .. وقد تعقبه والده محاولا العودة به إلى تكانت، ما رفضته أمه، فأحالتهما السلطات إلى القاضي الذي خيّر الشاب بين الذهاب مع والده إلى تكانت أو البقاء مع أمه في آدرار، فاختار البقاء مع أمه. كان ذلك في حدود سنة 1958. بقي فترة من الزمن في أطار بحثا عن العمل. ثم ذهب إلى ازويرات في الستينات حيث واصل حياته".. عند حديث إبراهيم عن أخيه الفقيد محمد محمود تحس بمشاعر الصدق الممزوج بالحسرة.. إنه يتذكر كل تفاصيل حياة رجل كان يمثل حالة استثنائية من العصامية والكرم وحب الخير. يقول عنه: "لا شيء في الدنيا يهم محمد محمود إلا فعل الخير للناس، وحسن معاشرتهم، وتدبير أمورهم، والوقوف على مشاكلهم وحلها. عندما يُعِدُّ عشاء لنفسه تراه يهبه للناس ويمضي سعيدا بما فعل.. لم يكن يطمح لجمع المال والبناء والتملك: لا إبل لديه ولا غنم. وعندما عم صيته وسرى نفعه أصبح شيخا في البرلمان. كان عزيرا في ازويرات، ذا علاقات واسعة، لا حدود لها حتى خارج المدينة، فعندما يسافر، مثلا، إلى المملكة المغربية يستقبله كبار الضباط ويجلونه، تماما كما يحترمه ضباط موريتانيا ويقيمون عنده في منزله. فالفقيد لا أحد يماثله في الطيبة ودماثة الخلق والأريحية في معاملة الناس". سألنا إبراهيم عن رأيه في الأسباب الحقيقية لما حققه المرحوم محمد محمود من نجاحات لا تحصى في السياسة وإدارة الشركات والعلاقات العامة والخاصة، فقال ان "سبب نجاحه يكمن في كرمه منقطع النظير، فالرجل ينفق كل ما يحصل عليه: يعطي، ويساعد، ويتصدق، ويستضيف الشخصيات والأعيان والأكابر والمسؤولين والرسميين، ويعطي للمحتاج وابن السبيل والمطرب وغيرهم.. فباب داره لا يوصد. وقد منّ الله عليه بمساعدته في إكرام الناس. أضف إلى ما سبق أن مشواره خال من الضغائن والأحقاد والمشاكل. فالرجل ليست له مشاكل مع أي أحد. كما أنه لا يكذب ولا يتذرع عندما تطلب منه حاجة. وبكلمة واحدة كانت حياة محمد محمود شريفة وجليلة". وفي الختام، سألناه عن وفاته، فأجاب بأن "وفودا من المعيدين كانوا يتقاطرون على منزله في ناوكشوط إبان مرضه، وهو ما يؤكد سعة علاقاته ومدى تقدير الناس له. وقد توفي في نواكشوط في 19 ديسمبر 2007 في انواكشوط ودفن في مقبرتها. وكنا إبان وفاته نخاف عليه من الديْن لأننا نعرف حجم إنفاقه وعطائه اللامتناهي، لكننا فوجئنا بأنه لا دين عليه على الإطلاق. كان، رحمه الله، رغم كل ما أنفق، نظيفا من أي دين لأي بنك أو لأي شخص. إنه استثنائي حقا".
سعة باع الملوك
كان علينا، في موقع ازويرات ميديا، أن نبحث عن شخص يعرف المرحوم محمد محمود ولد بهناس حق المعرفة من خارج عائلته الصغيرة لنسمع منه رأيه حوله. التقينا في هذا الصدد بالسيد لمانه ولد احميتي، وهو متقاعد من شركة اسنيم، قال لنا بأنه سمع من السيد أحمد ولد داداه شهادة بحق المرحوم لا يريد تفويتها لأنها مهمة. فقد قال عنه: "مع ما يعرف عن محمد محمود من انعدام أي مشوار دراسي، فإنه يستطيع المشاركة في كل مجلس، والحديث عن كل موضوع، بالتحليل وبالمعلومات، وهو ما لا يمكن إلا لعبقري فذ". مردفا أنه "لا شيء يكدر صفو محمد محمود. إنه يحب فعل الخير، إذ لا يأتيه صاحب الحاجة في حاجة إلا بذل في قضائها كل جهده". واسترسل لمانه في حديثه عن الفقيد محمد محمود قائلا: "عندما جُمع الزنوج السينغاليون للتسفير في مطار ازويرات سنة 1989، عمل محمد محمود على إطعامهم وسقيهم وإلباسهم، وكان يداوم على تفقد أحوالهم مانعا أي أحد منهم من أن يكون ضحية للجوع أو العطش أو العري". وفي مضمار آخر، قال عنه: "كان إذا طلب منه أحدهم دينا أعطاه إياه وكتبه أمامه، وفور خروجه يمزق الورقة، فإذا قضى المدين دينه فقد قضاه، وإذا لم يقضه فلا يحاسبه الله عليه لأنه غفره له مسبقا". وواصل في شهادته عنه، وهو يقول: "تجد في صالون محمد محمود كل السلطات العليا في البلد، كما تجد فيه أنواع الناس دون تمييز. إنه يملك سعة باع الملوك". وأكد لمانه أن "محمد محمود وصل ازويرات آخر سنة 1966 أو بداية سنة 1967، وأنه نجح في امتحان أجرته ميفيرما، وعمل فيها. ثم أنشأ شركة خاصة به 1973، قبل أن يصبح شيخا في البرلمان على مدى مأموريتين كان في إحداهما نائبا لرئيس مجلس الشيوخ". وحول جهوده الخيرية الكثيرة، قال لمانه ان الراحل محمد محمود "أدخل الكهرباء إلى مقبرة ازويرات بعد ربطها، عبر أسلاك طويلة، بكهرباء المطار". وأنه "كان ينفق على المقبرة بالمصابيح قبل أن يدخل إليها الكهرباء، كما كان ينفق عليها بالأكفان وبالعطور".. عطّر الله ضريحَه بسحائب الرحمات، وجعله مُخَلّدا في النعيم مع الشهداء والصالحين والصديقين. سيد أحمد ولد بوبكر سيره