
في الركن الهادئ من مدينة ازويرات، تقف بناية قديمة بصمتها المهيب، كأنها تهمس لمن يمر قربها: "هنا كانت تروى الحكايات". إنها سينما سنيم، القاعة الثقافية الوحيدة التي عرفت المدينة في زمن لم تكن فيه تعرف التلفاز، فصارت أهم معالمها الوجدانية وأكثرها حضورا في ذاكرة الأجيال. في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، كانت هذه القاعة نافذة على العالم. مقاعدها الحديدية كانت تمتلئ مع غروب الشمس، وتضاء شاشتها الكبيرة بأفلام هندية، وأخرى من الغرب الأمريكي، يتسابق الأهالي لمشاهدتها. الفرنسيون الذين كانوا يقيمون في ازويرات بكثرة، شكلوا أوائل روادها، ثم تبعهم المثقفون والموظفون والعمال، حتى غدت السينما ملتقى جماعيا لا يفوت. كانت التذكرة لا تتجاوز عشرين أوقية، أما الأطفال فيدفعون نصف المبلغ. ومع برودة الشتاء، كانت أجهزة التدفئة المثبتة في الصفوف الأمامية والخلفية تنقذ الجمهور من صقيع الصحراء، فيما لا يتردد بعضهم في حمل أغطية من منازلهم إلى القاعة. فوق هذه البناية، كانت تنتصب ساعة كبيرة تشبه ساعة "بيغ بن"، لا يسمع لها صوت، لكن سكان المدينة كانوا يضبطون عليها ساعاتهم. من الشوارع والساحات، كانت تشاهد بوضوح، وكأن السينما لم تكن فقط بيتا للعرض، وإنما مركزا للزمن نفسه.
داخل هذه القاعة، ولدت ذكريات كثيرة. من بين الجالسين على مقاعدها في إحدى تلك الأمسيات البعيدة،
كان طفل يدعى تقره ولد محمد يدرس في المدرسة القريبة، ويقطع تذكرته رفقة أصدقاء بعضهم غادر الحياة، وبعضهم غادر المدينة. سنوات طويلة مرت، ثم عاد تقره إلى المكان ذاته، لكن ليس كمشاهد بل كـحارس. منذ سنة 2000، أصبح تقره يسكن في مدخل السينما.
يعد الشاي في الزاوية، ويمر بين المقاعد كمن يربت على كتف غائب. يعرف مواقع الجلوس، يتذكر الوجوه، ويصون التفاصيل التي لا تسجلها الكاميرات كضحكات الأطفال وتنهيدات النهاية، وخطوات الخارجين بعد العرض. ورغم توقف عروض السينما، ما تزال الأبواب تفتح في مناسبات قليلة على شكل مهرجانات عمالية أو أمسيات ثقافية. وبين هذه اللحظات المتباعدة، يبقى الحارس وحده، حارسا لمكان سكنه الحنين. هكذا، وبالإضافة إلى أن سينما سنيم كانت شاشة تعرض عليها الأفلام، إلا أنها أيضا كانت حياة كاملة، لا تزال تعيش في رجل صغير كان يجلس في المقعد الأمامي، ثم كبر ليصون المكان والذاكرة.