
في أقصى شمالي البلاد، حيث الصحراء لا تنتهي، يواصل بعض المنقبين قصة محفوفة بالخطر والدمع. لم يبدأ حلمهم بالذهب في منطقة آمنة، بل وسط منطقة عسكرية مغلقة، كان الجيش الوطني يحرسها لحماية الوطن من الجماعات المسلحة وأنشطة التهريب. هناك، تسلل المنقبون الأوائل رغم الحظر، فدخلوا في مطاردة دائمة مع الجنود؛ جنود ينفذون أوامر لحماية البلاد، ومنقبون يطاردون أملا في كسر قيود الفقر.
لكن المغامرة لم تبق مجرد لعبة "كر وفر". بضغط من الواقع وتكرار المحاولات، فتدخلت لجنة من مكتب اتحادية المنقبين، والتقت عمدة ازويرات الأسبق السيد الشيخ ولد بايه أثناء الحملة الانتخابية وطلبت منه التدخل للسماح لها بالتنقيب في تلك المناطق وقد وجد تحركها صدى لديه، إذ ساهمت وساطته في فتح اكليب اندور رسميا أمام المنقبين. وهكذا انقلبت الصفحة من مطاردة إلى اعتراف، ومن خوف إلى فسحة أمل، لتتوالى بعدها عمليات فتح مناطق أخرى من نفس المنطقة.
إلا أن الأمل لم يكن كافيا لإخماد شغف بعض المغامرين. عبر بعضهم الحدود الجزائرية، فطارده حرس الحدود هناك، فيما انحدر آخرون إلى مناطق تسيطر عليها جبهة البوليساريو من بينها "اكليبات الفوله". ومع أحداث الكركرات، انقلبت المخاطرة إلى مأساة حيث الطائرات المسيرة المغربية صارت تترصد كل مركبة وتستهدفها، لتسقط أرواح المنقبين فرادى وجماعات.
لم تقف السلطات الموريتانية مكتوفة الأيدي. فقد نظمت حملات توعية متكررة، بالتعاون مع قيادات المنقبين، محذرة من مغبة تجاوز الحدود، وحاثة الناس على البقاء ضمن المناطق الآمنة. لكنها كانت معركة صعبة، إذ الذهب يفتن القلوب، والناس تراهن بأرواحها على صخرة قد تلمع. وبين الحملة والأخرى، يسقط ضحايا جدد. وهنا يظهر صوت آخر، صوت يعلو فوق المأساة؛ معارضون يستغلون كل حادث مميت ليحملوا النظام المسؤولية، متجاهلين الحملات التحسيسية المتواصلة لحماية حياة المواطنين من هذه المخاطرات.
ولعل أقسى المشاهد، تلك التي تعيشها عائلات المنقبين. أم تجلس أمام باب بيت متواضع في ضواحي ازويرات، تنظر إلى الطريق كل مساء بانتظار عودة ابنها الذي خرج منذ أسابيع للتنقيب. وحين تدق شاحنة باب الحي محملة بالجثامين، تنكسر قلوب كثيرة؛ بعض العائدين جثث هامدة ملفوفة في أغطية باهتة، لا تحمل لأمهاتهم سوى الألم، فيما يعود آخرون مثقلين بخيبة الفشل، خاويي الوفاض إلا من الخوف.
ثم جاءت مرحلة أخرى من القسوة؛ حين خفتت نسبيا ضربات المسيرات المغربية، دوى صوت المدفعية الصحراوية. لم تكتف هذه المدفعية بتهديد حياة المنقبين، بل أحيانا صودرت معداتهم، وسلبت حصيلة عرقهم، فخسروا الذهب والحياة معا.
بين مطرقة الطائرات المسيرة المغربية وسندان المدفعية الصحراوية، يعيش بعض المنقبين الموريتانيين مأساة إنسانية لا تخطئها العين. إنهم لا يبحثون عن بطولة، ولا يخوضون معركة سياسية، بل يركضون خلف بريق معدن أغراهم، حتى صار بعضهم جثثا هامدة في رمال الصحراء، فيما يظل آخرون مصرين على المقامرة بحياتهم، وكأنهم يكتبون بدمائهم فصلا جديدا من ملحمة الذهب والدم.
سيد أحمد ولد بوبكر سيره